اليوم نواصل طرح آراء الذين اختلفوا مع أوزفالد شبنجلر وهو من أبرز المفكرين وفلاسفة التاريخ الغربيين الذين يأخذون بالنظريات الدائرية Cyc والذى يؤمن إيمانا مطلقا بأن الحضارة الأمريكية فى طريقها للانهيار وأن الضربات الإرهابية ضدها ستكون عامل هدم لهذه الحضارة خاصة أن كل الحروب التقليدية تكسبها واشنطن أما حروبها مع الجماعات الإرهابية والمسلحة نموذج داعش والقاعدة وفيتنام فى ستينيات القرن الماضى لم تستطع أمريكا حسم الصراع معها، مما يعنى أن الإرهاب ربما ينجح فى هدم أمريكا، ولكن وكما قلت هناك من اختلف مع شبنجلر وطرحنا فى الحلقات السابقة عددا من الأسماء منها أرنولد توينبى الذى يسير على خلاف شبنجلر حيث يرى، أن بالإمكان إيقاف تدهور الحضارات الإنسانية عن طريق بعث القادة والمنقذين والمصلحين القادرين على خلق الاستجابات المناسبة، ومواجهة التحديات التى تعوق تقدم الحضارة، وذلك من خلال ما يسميه بمبدأ الارتداد والعودة Withdrawal and Return.. غير أن هذه الأقلية المبدعة يمكن أن تتحول–فى نظره–لأقلية مسيطرة تفرض وجودها بالقوة حينما تصل الحضارة أوج عظمتها، ما يعنى أن قدرة الإبداع والخلق–وهى شرط التقدم عنده–لم تعد تتوافر فى القادة، الأمر الذى تبدأ عنده الحضارة بالتدهور والانحلال.
وقد حاول العالم الأمريكى سوروكين Sorokin وعدد آخر من العلماء الأمريكيين الذين تناولوا هذا الموضوع بشكل أو بآخر، وعلى رأسهم وليم أجبرن W.Ogburn صاحب نظرية التخلف الثقافى Cultural Lag دحض هذه النظرة التشاؤمية لشبنجلر. فسوروكن الذى يعتبر من علماء الاجتماع ذوى النظرة التفاؤلية فى تفسير مسيرة الحضارات والثقافات الإنسانية، يرى أن الثقافة حين تصل إلى حالة الإغراق فى المادية وتنتهى إلى الوهن والضعف، تستطيع أن تجدد نفسها ولا تموت أبدا، وذلك بالرجوع للقيم الروحية والفكرية والدينية التى تعيد للثقافة نشاطها وحيويتها عن طريق بعث القادة والمخلصين، وتتحول من المظهر الحسى sensate من الثقافة إلى المظهر الفكرى ideational.. وهكذا.
ذلك أن جميع المجتمعات الإنسانية تتذبذب بين مظهرين للثقافة أولهما: المظهر الفكرى Ideational، وهو يمثل لديه الجانب الحسن goodness الذى ترتبط فيه اهتمامات الأفراد باعتبارات فكرية وبخاصة سيطرة الأفكار الدينية، وثانيهما: المظهر الحسى Sensate وهو يمثل الجانب السىء Badness الذى يتميز بانصراف الأفراد عن المعايير الدينية وانكبابهم على كل ما هو حسى واهتمامهم بكل ما يحقق المنفعة المادية والذاتية لهم دون أى اعتبار آخر.
ويخلص سوروكن من نظريته إلى القول بأن جميع الثقافات والحضارات الإنسانية، لا بد أن تخضع فى مختلف مراحل تاريخها لهذا النمط من التغير، حيث تجدّد نفسها باستمرار، ولا تموت أبداً، وهو- بهذا الموقف-إنما يخالف شبنجلر رأيه بأن الحضارة مصيرها الاندثار والفناء.
أما عالم الاجتماع الأمريكى وليم أوجبرن، فيرى أن الثقافات والحضارات الإنسانية لا تندثر بفعل التقدم المادى، ذلك أن التقدم التكنولوجى وتقدم الاختراعات هو المعيار الذى يقاس به تقدم الثقافات والحضارات الإنسانية. أما التخلف الثقافى الذى يحدث فى المجتمعات الإنسانية، فيأتى نتيجة الهوة التى غالباً ما تتشكل نتيجة سرعة استيعاب المجتمعات للجانب المادى من الثقافة Material Culture عنه للجانب المعنوى Non Material Culture. ويبدو أن آراء أوجبرن هذه والتى لا تخلو من النقد، لا بد وأنها تلاقى استحساناً من مخططى الاستراتيجية الأمريكية، اعتماداً على ما حققته وتحققه أمريكا من تقدم علمى وتكنولوجى هائل.
ثم تأتى أخيراً آراء بعض المفكرين الأمريكيين الذين حاولوا تفسير مسيرة التاريخ الإنسانى، مثل مُؤلَّف «نهاية التاريخ» لفوكوياما الذى حاول فيه البرهنة على أن التاريخ الإنسانى قد بلغ نهايته، وكذلك مؤلف «صدام الحضارات» لصموئيل هنتنجتون الذى حاول فيه التأكيد على حتمية الصراع.
بين الحضارات وبخاصة بين الحضارتين الغربية والإسلامية، الأمر الذى جاء على هوى السياسات الأمريكية العدوانية التى تنتهجها إدارة الجمهوريين حيال العرب والإسلام والمسلمين تحت دعوى محاربة الإرهاب.
واستطراداً لما سبق نتساءل: إذا جاز لنا فى هذا المقال حق الاستدلال على صدق هذه النظريات أو خطئها، فى ضوء المعطيات والوقائع التى تنتظم المجتمعات الإنسانية المعاصرة بمختلف انتماءاتها الثقافية والحضارية، فهل سيعين ذلك فى: معرفة مدى قلق الولايات المتحدة من فقد سيادتها على العالم خلال العقود الثلاثة القادمة على الأقل لصالح الجنس الأصفر، بسبب التقدم المطرد الذى تحرزه الصين بخاصة وشعوب الجنس الأصفر الأخرى بعامة فى شتى الميادين أولاً، ثم فى معرفة مدى مطابقة السياسات والمواقف التى تتخذها الولايات المتحدة من العرب والإسلام والمسلمين، لما تقول به نظرية شبنجلر بشأن المصير المحتوم الذى ينتظر الثقافة الغربية التى جعلت أمريكا من نفسها الراعى لها والمدافع عنها ثانياً؟.
لعل أكثر ما شد اهتمام السياسيين الأمريكيين عقب انتهاء المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعى الصينى هو تبديل القيادة الصينية بزعامة «تسى من»، وبخاصة أن التقدم المذهل الذى حققته الصين فى العقدين الماضيين على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلاقات الدولية، ينفى أى احتمال قيام معارضة مؤثرة على القيادة الصينية التى جرى استبدالها.
وقد جاءت الإجابة على ذلك سريعة على لسان عدد من المحللين السياسيين، الذين يرون أن ما حدث كان استجابة طبيعية وطوعية من القيادة السابقة لمطلب تجديد دم القيادة الصينية وتحديثها لتواكب التطورات السريعة التى تجتاح النظام العالمى أحادى القطب، الذى تحاول الولايات المتحدة من خلال زعامته السيطرة على الاقتصاد العالمى والهيمنة على العالم. ويدللون على ذلك بتأكيد القيادة الجديدة على بقاء الحزب الشيوعى، كقوة قيادية وتشريعية ورقابية وتنفيذية تتمتع بصلاحية اتخاذ القرار على كل المستويات.
وهذا لا يعنى أن الشيوعية- فى نظر القيادة الصينية الجديدة–تظل هدفاً غائياً وأيديولوجية لا تُمس، وإنما هى وسيلة لضبط إيقاع الاستقرار فى المجتمع أثناء توجهه نحو تحقيق أعلى معدلات للتنمية، وبناء قوة عسكرية تمكنها من الوقوف بندية أمام القوى العالمية الفاعلة، وبخاصة الولايات المتحدة.
ويرون كذلك، أن القيادة الصينية السابقة قد استفادت من التجربة التى مرت بها روسيا الاتحادية والجمهوريات التى كانت تنضوى معها تحت لواء الاتحاد السوفييتى السابق، وبخاصة بعد الانهيار الاقتصادى والاجتماعى المروع الذى أصابها نتيجة التحول المفاجئ من النظام الاشتراكى إلى الأخذ بنظام السوق وغدا إن شاء الله نواصل طرح عدد آخر من أسانيد بقاء أمريكا واستمرار حضارتها والمخالفين مع هذا الطرح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة